فصل: فصل: (ما يصح به الرضى):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال صاحب المنازل:
قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 2730] لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا وشرط القاصد الدخول في الرضى والرضى اسم للوقوف الصادق حيثما وقف العبد لا يلتمس متقدما ولا متأخرا ولا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص وأشقها على العامة أما قوله: لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا فلأنه قيد رجوعها إليه سبحانه بحال وهو وصف الرضى فلا سبيل إلى الرجوع إليه مع سلب ذلك الوصف عنها وهذا نظير قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فإنما أوجب لهم هذا السلام من الملائكة والبشارة بقيد وهو وفاتهم طيبين فلم تبق الآية لغير الطيب سبيلا إلى هذه البشارة والحاصل: أن الدخول في الرضى شرط في رجوع النفس إلى ربها فلا ترجع إليه إلا إذا كانت راضية قلت: هذا تعلق بإشارة الآية لا بالمراد منها فإن المراد منها: رضاها بما حصل لها من كرامته وبما نالته عند الرجوع إليه فحصل لها رضاها والرضى عنها وهذا يقال لها عند خروجها من دار الدنيا وقدومها على الله.
قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: إذا توفى العبد المؤمن أرسل الله إليه ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف:
أحدها: أنه عند الموت وهو الأشهر قال الحسن: إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها.
وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث هذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي ارجعي إلى ربك راضية مرضية تقال لها عند الموت والكلمة الثانية وهي فادخلي في عبادي وادخلي جنتي تقال لها يوم القيامة قال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها فادخلي في عبادي وادخلي جنتي والصواب: أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى إن كانت مطمئنة إلى الله وفي جنته كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك وحينئذ فيكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة فأول ذلك عند الموت وتمامه ونهايته: يوم القيامة فلا اختلاف في الحقيقة ولكن الشيخ أخذ من إشارة الآية: أن رجوعها إلى الله من الخلق في هذا العالم إنما يحصل برضاها ولكن لو استدل بالآية في مقام الطمأنينة لكان أولى فإن هذا الرجوع الذي حصل لها فيه رضاها والرضى عنها: إنما نالته بالطمأنينة وهو حظ الكسب من هذه الآية وموضع التنبيه على موقع الطمأنينة وما يحصل لصاحبها فلنرجع إلى شرح كلامه قوله: الرضى هو الوقوف الصادق يريد به الوقوف مع مراد الرب تبارك وتعالى الديني حقيقة من غير تردد في ذلك ولا معارضة وهذا مطلوب القوم السابقين وهو الوقوف الصادق مع محاب الرب تعالى من غير أن يشوب ذلك تردد ولا يزاحمه مراد.
قوله: حيثما وقف العبد يصح أن يكون العبد فاعلا أي حيث ما وقف بإذن ربه لا يلتمس تقدما ولا تأخرا ويصح أن يكون مفعولا وهو أظهر أي حيثما وقف الله العبد فإن وقف يستعمل لازما ومتعديا أي حيثما وقفه ربه لا يطلب تقدما ولا تأخرا وهذا إنما يكون فيما يقفه فيه من مراده الكوني الذي لا يتعلق بالأمر والنهي وأما إذا وقفه في مراد ديني فكماله بطلب التقدم فيه دائما فإنه إن لم تكن همته التقدم إلى الله في كل لحظة: رجع من حيث لا يدري فلا وقوف في الطريق ألبتة ولكن إذا وقف في مقام من الغنى والفقر والراحة والتعب والعافية والسقم والاستيطان ومفارقة الأوطان يقف حيث وقفه لا يطلب غير تلك الحالة التي أقامه الله فيها وهذا لتصحيح رضاه باختيار الله له والفناء به عن اختياره لنفسه وكذلك قوله: لا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهذا المعنى الذي ذكره الشيخ فرد من أفراد الرضى وهو الرضى بالأقسام والأحكام الكونية التي لم يؤمر بمدافعتها وقوله: وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص يعني أن سلوك أهل الخصوص: هو بالخروج عن النفس والخروج عن الإرادة: هو مبدأ الخروج عن النفس فإذا الرضى بهذا الاعتبار من أوائل مسالك الخاصة وهذا على أصله في كون الفناء غاية مطلوبة فوق الرضى والصواب: أن الرضى أجل منه وأعلى وهو غاية لا بداية نعم فوقه مقام الشكر فهو منزلة بينه وبين منزلة الصبر وقوله: وأشقها على العامة وذلك لمشقة الخروج عن الحظوظ على العامة والرضى أول ما فيه: الخروج عن الحظوظ والله سبحانه وتعالى أعلم.

.فصل: [درجات الرضى]:

قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: رضى العامة وهو الرضى بالله ربا وتسخط عبادة ما دونه وهذا قطب رحى الإسلام وهو يطهر من الشرك الأكبر الرضى بالله ربا: أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] قال ابن عباس رضى الله عنهما: سيدا وإلها يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء وقال في أول السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا.
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد: أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما وتفسير الرضى بالله ربا: أن يسخط عبادة ما دونه هذا هو الرضى بالله إلها وهو من تمام الرضى بالله ربا فمن أعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا لأن الرضى بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية وقوله: وهو قطب رحى الإسلام يعنى أن مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره وقد تقدم أن العبادة هي الحب مع الذل فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له وقوله: وهو يطهر من الشرك الأكبر يعني أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فهذا الرضى يطهر صاحبه من الأكبر وأما الأصغر: فيطهر منه نزوله منزلة إياك نعبد وإياك نستعين.

.فصل: [ما يصح به الرضى]:

قال: وهو يصح بثلاثة شروط: أن يكون الله عز وجل أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة يعني أن هذا النوع من الرضى إنما يصح بثلاثة أشياء أيضا:
أحدها: أن يكون الله عز وجل أحب شيء إلى العبد وهذه تعرف بثلاثة أشياء أيضا أحدها: أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها.
الثاني: أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته.
الثالث: أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول وغيره محبوبا تبعا لحبه كما يطاع تبعا لطاعته فهو في الحقيقة المطاع المحبوب وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضا.
فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه: فهو مشرك ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال: الدرجة الثانية: الرضى عن الله وبهذا نطقت آيات التنزيل وهو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها ووجه قوله: أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام وأما هذه الدرجة: فمن معاملات القلوب وهي لأهل الخصوص وهي الرضى عنه في أحكامه وأقضيته وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس والذي هو طريق أهل الخصوص فمقدمته بداية سلوكهم لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ووقوفه مع مراد الله عز وجل لا مع مراد نفسه.
هذا تقرير كلامه وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله والذى ينبغي: أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا فإنها مختصة.
وهذه الدرجة مشتركة فإن الرضى بالقضاء يصح من المؤمن والكافر وغايته التسليم لقضاء الله وقدره فأين هذا من الرضى به ربا وإلها ومعبودا وأيضا فالرضى به ربا فرض بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة فمن لم يرض به ربا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال وأما الرضى بقضائه: فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب وقيل: بل هو واجب وهما قولان في مذهب أحمد.
فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب وفي الحديث الإلهي الصحيح: يقول الله عز وجل: ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل وأيضا: فإن الرضى به ربا يتضمن الرضى عنه ويستلزمه فإن الرضى بربوبيته: هو رضى العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه وإن كان راضيا به ربا من بعضها فالرضى به ربا من كل وجه: يستلزم الرضى عنه ويتضمنه بلا ريب.
وأيضا: فالرضى به ربا متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة فهو الرضى به خالقا ومدبرا وآمرا وناهيا وملكا ومعطيا ومانعا وحكما ووكيلا ووليا وناصرا ومعينا وكافيا وحسيبا ورقيبا ومبتليا ومعافيا وقابضا وباسطا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته.
وأما الرضى عنه: فهو رضى العبد بما يفعله به ويعطيه إياه ولهذا إنما يجىء إلا في الثواب والجزاء كقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 2728] فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]
والرضى به: أصل الرضى عنه والرضى عنه: ثمرة الرضى به وسر المسألة: أن الرضى به متعلق بأسمائه وصفاته والرضى عنه: متعلق بثوابه وجزائه وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا ولم يعلقه بمن رضي عنه كما قال: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فجعل الرضى به قرين الرضى بدينه ونبيه وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها وأيضا: فالرضى به ربا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه والشكر على نعمه يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا وإن ساء عبده فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضى بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرضى بالإسلام دينا: يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله فجمعت هذه الثلاثة الدين كله وأيضا: فالرضى به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه واتخاذه وليا ومعبودا وإبطال عبادة كل ما سواه وقد قال تعالى لرسوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] فهذا هو عين الرضى به ربا.